الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).
.تفسير الآيات (32- 36): {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ (36)}قوله عز وجل: {ولقد استهزئ برسل من قبلك} وذلك أن كفار مكة إنما سألوا هذه الأشياء على سبيل الاستهزاء فأنزل الله هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى أنهم إنما طلبوا منك هذه الآيات على سبيل الاستهزاء، وكذلك قد استهزئ برسل من قبلك {فأمليت للذين كفروا} يعني فأمهلتهم وأطلت لهم المدة {ثم أخذتهم} يعني بالعذاب بعد الإمهال فعذبتهم في الدنيا بالقحط والقتل والأسر وفي الآخرة بالنار {فكيف كان عقاب} يعني فكيف كان عقابي لهم {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} يعني أفمن هو حافظها ورازقها وعالم بها وبما عملت من خير وشر ويجازيها بما كسبت فيثيبها إن أحسنت ويعاقبها إن أساءت وجوابه محذوف، وتقديره كمن ليس بقائم بل هو عاجز عن نفسه ومن كان عاجزاً عن نفسه فهو عن غيره أعجز وهي الأصنام التي لا تضر ولا تنفع {وجعلوا لله شركاء} يعني وهو المستحق للعبادة لا هذه الأصنام التي جعلوها لله شركاء {قل سموهم} يعني له. وقيل: صفوهم بما يستحقون ثم انظروا هل هي أهل لأن تعبد {أم تنبئونه} يعني أم تخبرون الله {بما لا يعلم في الأرض} يعني أنه لا يعلم أن لنفسه شريكاً من خلقه وكيف يكون المخلوق شريكاً للخالق وهو العالم بما في السموات والأرض ولو كان لعلمه والمراد من ذلك نفي العلم بأن يكون له شريك {أم بظاهر من القول} يعني أنهم يتعلقون بظاهر من القول مسموع وهو في الحقيقة باطل لا أصل له وقيل: معناه بل بظن من القول لا يعلمون حقيقته {بل زين للذين كفروا مكرهم} قال ابن عباس: زين لهم الشيطان الكفر وإنما فسر المكر بالكفر لأن مكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم كفر منهم والمزين في الحقيقة هو الله تعالى لأنه هو الفاعل المختار على الإطلاق لا يقدر أحد أن يتصرف في الوجود إلا بإذنه فتزيين الشيطان إلقاء الوسوسة فقط، ولا يقدر على إضلال أحد وهدايته إلا الله تعالى ويدل على هذا سياق الآية وهو قوله: {ومن يضلل الله فما له من هاد} وقوله: {وصدوا عن السبيل} قرئ بضم الصاد ومعناه صرفوا عن سبيل الدين والرشد والهداية ومنعوا من ذلك والصاد المانع لهم هو الله تعالى، وقرئ وصدوا بفتح الصاد ومعناه أنهم صدوا عن سبيل الله غيرهم أي عن الإيمان {ومن يضلل الله فما له من هاد} الوقف عليه بسكون الدال وحذف الياء في قراءة أكثر القراء {لهم عذاب في الحياة الدنيا} يعني بالقتل والأسر ونحو ذلك مما فيه غيظهم {ولعذاب الآخرة أشق} يعني أشد وأغلظ لأن المشقة غلظ الأمر على النفس وشدته مما يكاد يصدع القلب من شدته فهو من الشق الذي هو الصدع {وما لهم من الله} يعني من عذاب الله {من واق} يعني من مانع يمنعهم من عذابه قوله تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون} أي صفة الجنة التي وعد المتقون {تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم} لا ينقطع أبداً {وظلها} يعني أنه دائم لا ينقطع أبداً وليس في الجنة شمس ولا قمر ولا ظلمة بل ظل ممدود لا ينقطع، ولا يزول وفي الآية رد على جهم وأصحابه فإنهم يقولون: إن نعيم الجنة يفنى وينقطع وفي الآية دليل على أن حركات أهل الجنة لا تنتهي إلى سكون دائم.كما يقول أبو الهذيل واستدل القاضي عبد الجبار المعتزلي بهذه الآية على أن الجنة لم تخلق بعد. قال: ووجه الدليل أنها لو كانت مخلوقة لوجب أن تفنى وينقطع أكلها لقوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} فوجب أن لا تكون الجنة مخلوقة لقوله: {أكلها دائم} يعني لا ينقطع قال ولا ينكر أن تكون في السموات جنات كثيرة تتمتع بها الملائكة، ومن يعد حياً من الأنبياء والشهداء وغيرهم على ماروي إلا أن الذي نذهب إليه أن جنة الخلد لم تخلق بعد. والجواب عن هذا أن حاصل دليلهم مركب من آيتين: إحداهما: قوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} والأخرى قوله: {أكلها دائم وظلها} فإذا أدخلنا التخصيص على هذين العمومين سقط دليلهم فنخص هذين الدليلين بالدلائل الدالة على أن الجنة مخلوقة. منها قوله تعالى: {وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} وقوله تعالى: {تلك عقبى الذين اتقوا} يعني أن عاقبة أهل التقوى هي الجنة {وعقبى الكافرين النار} يعني في الآخرة. قوله عز وجل: {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك} في المراد بالكتاب هنا قولان: أحدهما أنه القرآن والذين أتوه المسلمون وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد أنهم يفرحون بما يتجدد من الأحكام والتوحيد والنبوة والحشر بعد الموت بتجدد نزول القرآن {ومن الأحزاب} يعني الجماعات الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفار واليهود والنصارى {من ينكر بعضه} وهذا قول الحسن وقتادة. فإن قلت: إن الأحزاب من المشركين وغيرهم من أهل الكتاب ينكرون القرآن كله فكيف قال ومن الأحزاب من ينكر بعضه. قلت: إن الأحزاب لا ينكرون القرآن بجملته لأنه قد ورد فيه آيات دالاَّت على توحيد الله وإثبات قدرته وعلمه وحكمته، وهم لا ينكرون ذلك أبداً والقول الثاني أن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل والمراد بأهله الذين أسلموا من اليهود والنصارى مثل عبد الله بن سلام وأصحابه ومن أسلم من النصارى، وهم ثمانون رجلاً أربعون من نجران وثلاثون من الحبشة وعشرة ممن سواهم فرحوا بالقرآن لكونهم آمنوا به وصدقوه، ومن الأحزاب يعني بقية أهل الكتاب من اليهود والنصارى وسائر المشركين من ينكر بعضه.وقيل: كان ذكر الرحمن قليلاً في القرآن في الابتداء فلما أسلم عبد الله بن سلام ومن معه من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة، فلما كرر الله تعالى ذكر لفظه الرحمن في القرآن فرحوا بذلك فأنزل الله تعالى والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب يعني مشركي مكة من ينكر بعضه وذلك لمَّا كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصلح يوم الحديبية كتب فيه بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب فأنزل الله {وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي} وإنما قال ومن الأحزاب من ينكر بعضه لأنهم كانوا لا ينكرون الله وينكرون الرحمن {قل} أي قل يا محمد {إنما أمرت أن أعبد الله} يعني وحده {ولا أشرك به} شيئاً {إليه أدعو} إي إلى الله وإلى الإيمان به أدعوا الناس {وإليه مآب} يعني مرجعي يوم القيامة..تفسير الآيات (37- 39): {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)}{وكذلك أنزلناه حكماً عربياً} أي كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلغاتهم، أنزلنا إليك يا محمد هذا الكتاب وهو القرآن عربياً بلسانك ولسان قومك. وإنما سمي القرآن حكماً لأن فيه جميع التكاليف والأحكام والحلال والحرام والنقض والإبرام، فلما كان القرآن سبباً للحكم جعل نفس الحكم على سبيل المبالغة، وقيل إن الله لما حكم على جميع الخلق بقبول القرآن والعمل بمقتضاه سماه حكماً لذلك المعنى {ولئن اتبعت أهواءهم} قال جمهور المفسرين: إن المشركين دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملة آبائهم فتوعده الله على اتباع أهوائهم في ذلك. وقال ابن السائب: المراد به متابعة آبائهم في الصلاة لبيت المقدس {بعد ما جاءك من العلم} يعني بأنك على الحق، وأن قبلتك الكعبة هي الحق. وقيل: ظاهر الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره وقيل: هو حث للنبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ الرسالة والقيام بما أمر به ويتضمن ذلك تحذير غيره من المكلفين لأن من هو أرفع منزلة وأعظم قدراً وأعلى مرتبة إذا حذر كان غيره ممن هو دونه بطريق الأولى {ما لك من الله من ولي ولا واق} يعني من ناصر ولا حافظ قوله تعالى: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك} روي أن اليهود، وقيل المشركين، قالوا: إن هذا الرجل يعنون النبي صلى الله عليه وسلم، ليس له همة إلا في النساء فعابوا عليه ذلك وقالوا لو كان كما يزعم أنه رسول الله لكان مشتغلاً بالزهد وترك الدنيا فأجاب الله عز وجل عن هذه الشبهة، وعما عابوه به بقوله عز وجل: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك} يا محمد {وجعلنا لهم أزواجاً وذرية} فإنه قد كان لسليمان عليه الصلاة والسلام ثلثمائة امرأة حرة وسبعمائة امرأة سرية فلم يقدح ذلك في نبوته وكان لأبيه داود عليه الصلاة والسلام مائة امرأة فلم يقدح ذلك أيضاً في نبوته فكيف يعيبون عليك ذلك، ويجعلونه قادحاً في نبوتك والمعنى: ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك يأكلون ويشربون وينكحون، وما جعلناهم ملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} هذا جواب لعبد الله بن أبي أمية، وغيره من المشركين الذي سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الآيات واقترحوا عليه أن يريهم المعجزات، وتقدير هذا الجواب أن المعجزة الواحدة كافية في إثبات النبوة وقد أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعجزات كثيرة يعجز عن مثلها البشر، فما لهم أن يقترحوا عليه شيئاً، وإتيان الرسول بمعجزات ليس إليه بل هو مفوض إلى مشيئة الله عز وجل فإن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها {لكل أجل كتاب} وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم فلما استبطئوا ذلك، وقد كانوا يستعجلون نزوله أخبر الله عز وجل أن لكل قضاء قضاه كتاباً قد كتبه فيه ووقتاً يقع فيه لا يتقدم ولا يتأخر.والمعنى: أن لكل أجل أجله الله كتاباً قد أثبته فيه، وقيل: في الآية تقديم وتأخير تقديره لكل كتاب أجل ومدة والمعنى أن الكتب المنزلة لكل كتاب منها وقت ينزل فيه {يمحو الله ما يشاء ويثبت} وذلك أنهم لما اعترضوا على رسول الله فقالوا: إن محمداً يأمر أصحابه بأمر اليوم ثم يأمرهم بخلافه غداً، وما سبب ذلك إلا أنه يقوله من تلقاء نفسه، أجاب الله عن هذا الاعتراض بقوله: {يمحو الله ما يشاء ويثبت}. قال سعيد بن جبير وقتادة: يمحو الله ما شاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله ويثبت ما يشاء من ذلك فلا ينسخه ولا يبدله، وقال ابن عباس: يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الرزق والأجل والسعادة والشقاوة، ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن حذيفة بن أسيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكاً فصورهما وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما يشاء فيكتب الملك، ثم يقول يا رب أجله فيقول: ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يقول: الملك يا رب رزقه فيقول: ما يشاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك الصحيفة، فلا يزيد على أمر ولا ينقص» أخرجه مسلم.(ق) عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو الصادق والمصدوق «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه نطفة أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح، فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» فإن قلت: هذا الحديث والذي قبله صريح بأن الآجال والأرزاق مقدرة، وكذا السعادة والشقاوة لا تتغير عما قدره الله وعلمه في الأزل فيستحيل زيادتها ونقصانها، وكذلك يستحيل أن ينقلب السعيد شقيا أو الشقي سعيداً، وقد صح في فضل صلة الرحم أن صلة الرحم تزيد في العمر فكيف الجمع بين هذه الأحاديث، وبين قوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت}؟قلت: قد تكرر بالدلائل القطعية أن الله عالم الآجال والأرزاق وغيرها، وحقيقة العلم معرفة المعلوم على ما هو عليه فإذا علم الله أن زيداً يموت في وقت معين استحال أن يموت قبله أو بعده وهو قوله تعالى: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} فدل ذلك على أن الآجال لا تزيد ولا تنقص. وأجاب العلماء عما ورد في الحديث في فضل صلة الرحم من أنها تزيد في العمر بأجوبة الصحيح منها: أن هذه الزيادة تكون بالبركة في عمره بالتوفيق للطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها عن الضياع وغير ذلك. والجواب الثاني منه: أنها بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة في اللوح المحفوظ أن عمر زيد مثلاً ستون سنة، إلا أن يصل رحمه فإن وصلها زيد له أربعون سنة، وقد علم الله في الأزل ما سيقع من ذلك، وهو معنى قوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت} أي بالنسبة لما يظهر للمخلوقين من تصوير الزيادة. وأما انقلاب الشقي سعيداً أو السعيد شقياً فيتصور في الظاهر أيضاً لأن الكافر قد يسلم فينقلب من الشقاوة إلى السعادة، وكذا العاصي ونحوه وقد يتوب فينقلب من الشقاوة إلى السعادة وقد يرتد المسلم، والعياذ بالله تعالى، فيموت على ردته فينقلب من السعادة إلى الشقاوة، والأصل في هذا الاعتبار بالخاتمة عند الموت وما يختم الله به له وهو المراد من علم الله الأزلي الذي لا يتغير ولا يتبدل. والله أعلم. وأصل المحو: إذهاب أثر الكتابة وضده الإثبات فمن العلماء من حمل الآية على ظاهرها فجعلها عامة في كل شيء يقتضيه ظاهر اللفظ، فيزيد الله ما يشاء في الرزق والأجل. وكذا القول في السعادة والشقاوة والإيمان بالله والكفر. ونقل نحو هذا عن عمر وابن مسعود فإنهما قالا: يمحو السعادة والشقاوة ويمحو الرزق والأجل ويثبت ما يشاء. وروي عن عمر أنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني من أهل السعادة والمغفرة فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب وروي مثله عن ابن مسعود وقد ورد في بعض الآثار «أن الرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيمد إلى ثلاثين سنة» هكذا ذكر البغوي بغير سند. وروي بسنده عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم «ينزل الله تبارك وتعالى في ثلاث ساعات بقين من الليل فينظر في الساعة الأولى منهن في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت» ومن العلماء من حمل معنى الآية على الخصوص في بعض الأشياء دون بعض فقال: المراد بالمحو والإثبات نسخ الحكم المتقدم وإثبات حكم آخر عوضاً عن الحكم المتقدم، وقيل: إن الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم فيمحو الله ما يشاء من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب، ولا عقاب مثل قول القائل أكلت، شربت، دخلت، خرجت، ونحو ذلك من الكلام، وهو صادق فيه ويثبت ما فيه ثواب وعقاب.وهذا قول الضحاك. وقال الكلبي: يكتب القول كله حتى إذا كان يوم الخميس طرح منه شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب. وقال ابن عباس: هو الرجل يعمل بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلاله فهو الذي يمحو والذي يثبت هو الرجل يعمل بطاعة الله ثم يموت، وهو في طاعته فهو الذي يثبت، وقال الحسن: يمحو الله ما يشاء يعني من جاء أجله فيذهبه ويثبت من لم يجئ أجله وقال سعيد بن جبير يمحو الله ما يشاء من ذنوب عباده فيغفرها ويثبت ما يشاء منها فلا يغفرها. وقال عكرمة: يمحو الله ما يشاء من الذنوب بالتوبة ويثبت بدل الذنوب حسنات. وقال السدي: يمحو الله ما يشاء يعني القمر ويثبت الشمس. وقال الربيع: هذا في الأرواح يقبضها الله عند النوم فمن أراد موته محاه وأمسكه، ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه، وقيل: إن الله يثبت في أول كل سنة حكمها فإذا مضت السنة محاه وأثبت حكماً آخر للسنة المستقبلة وقيل: يمحو الله الدنيا ويثبت الآخرة. وقيل: هو في المحن والمصائب فهي مثبتة في الكتاب ثم يمحوها بالدعاء والصدقة. وقيل: إن الله يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء لا اعتراض لأحد عليه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فان قلت مذهب أهل السنة أن المقادير سابقة وقد جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، فكيف يستقيم مع هذا المحو والإثبات. قلت: المحو والإثبات مما جف به القلم وسبق به القدر فلا يمحو شيئاً ولا يثبت شيئاً إلا ما سبق به علمه في الأزل وعليه يترتب القضاء والقدر.مسألة: استدلت الرافضة على مذهبهم في البداء بهذه الآية: قالوا: إن البداء جائز على الله وهو أن يعتقد شيئاً ثم يظهر له خلاف ما اعتقده وتمسكوا بقوله: {يمحو الله ما يشاء ويثبت} والجواب عن هذه المسألة أن هذا مذهب باطل ظاهر الفساد لأن علم الله قديم أزلي، وهو من لوازم ذاته المخصوصة، وما كان كذلك كان دخول التغيير والتبديل فيه محالاً كذا ذكره الإمام فخر الدين الرازي في تفسير هذه الآية. وقوله تعالى: {وعنده أم الكتاب} يعني أصل الكتاب، وهو اللوح المحفوظ الذي لا يغير ولا يبدل، وسمي اللوح المحفوظ أم الكتاب لأن جميع الأشياء مثبتة فيه ومنه تنسخ الكتب المنزلة، وقيل: إن العلوم كلها تنسب إليه وتتولد منه، قال ابن عباس: هما كتابان كتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت ما يشاء وأم الكتاب الذي لا يغير شيء منها وروى عطية عن ابن عباس قال: إن لله لوحاً محفوظاً مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء له دفتان من ياقوتة، لله فيه كل يوم ثلثمائة وستون لحظة يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، وسأل ابن عباس كعباً عن أم الكتاب فقال: علم الله ما هو خالق وما خلقه وما هم عاملون.
|